لا حلم يكفينا لنبتسم مرتين، هناك ليل واحدٌ لذاكرتنا تتسع بقعته كلما ازداد المطر، قطرةٌ تلو القطرة تتكور بَرَداً في كحل أعيننا، لا تحمله جفوننا بَرداً يرسم خرائط الغربة على تربة وجوهنا، ولا يقدر الغرباء الوصول إلى سمائهم ربما لأنهم قد تاهوا على متن إحدى نجماتها، لهذه الأرض حلمٌ نطرزه بريشة خمرية، لتنقر غرزها دورياُ يرتل علينا سوراً من عبق اللوز الأخضر، هنا على هذه الأرض يزورنا شهر البركة بحزن وخجل، ونقطف الزيتون باكياً بزيت مالح، على هذه الأرض أهدتني عيوناً مشرقة وسادة زرقاء!! .
على الرصيف حياتي موضوع تأملي وتأملي وتعبيري هو تعلمي، أردد الجملة في رأسي ترقصُ يمنةً وشمالاً، لترعى عيني بخضرة الوجوه المارة، عيونهم التائهة، نظرات أطفالٍ حائرين يخافون أن يبتسموا حتى لا تعيد التفكير بإعطائهم شيقلاً.
هم يبيعون عبوسة وجوههم، ويبيعوننا دموعهم وحرقة أمهاتهم عليهم، صار ثمن الدمع في بلادنا شيقلاً معدنياً صغيراً ربما يشتري له/لها رغيف خبزٍ وربما يشتري لغيرهم قطعة حلوٍ يغيرون بها مزاجهم المعكر!! .
للدمع أثمان مختلفة في أرضنا و للشيقل أيضاً استخدامات مختلفة!! .. "أعطيني شيقل" .. "الله يوفقك اشتري مني العلكة" .. "الله يخليلك ولادك خدي مني البسكوتة عشان أشتري أواعي عيد"، كل هذه الجمل وغيرها أسمعها كل يوم في طريقي لمكتبي في مناطق مختلفة، شوارعنا قد أنجبت العديد من الأطفال مرةً واحدة!! .
ظاهرة مستجدة على شوارع مدينتنا أطفالٌ ينتشرون في كل مكان ليتعلقوا بالمارين وليلملموا قوتهم مقابل زهر عمرهم يبيعونه زهرة تلو الأخرى ونحن نشتريها أو نلقفها وندوس عليها دون أن نشعر!!.
الزيت دمعاً!!
لو يذكر الزيتون غارسه لصار الزيت دمعاً، وها نحن نقطف زيتون غزة بعد أن هطلنا عليه بدموعنا فالسماء من كثرة الحزن قد علق الدمع حشرجة في حلقها، لا عرس للزيتون هذه السنة ولا دبكة لشبابنا ولا رقصة للصبايا تحول الزيتون زيتاً، قرويون من غير سوء يحملون أسماء تتشابه مثل حبات زيتونهم قطفوها علَّ أحداً يعبر السبيل إليهم، مررت من هناك لأرسم عباءةً كانت تلبسها جدتي وأضع بها حبات الزيتون لأكبسها كما أكبس سنين عمري ليعتِّق ذكرياته، الخشب لا لزن له وأوراق الزيتون خجلت من أصوات رمادٍ أودى بأرواح كانت تحضنها، خجلت من عمرٍ أمضته تَعِدُ أطفالها بحبٍ بطعم زيتونها وأخضراً بلون عشقها، ولكن مزقت أحلامها واختارت ألا تشاهدهم يقتلون بعضهم ويقتلون حبهم ويقتلونها!!.
اختارت أن تتنحى وتموت لوحدها أفضل من أن يقتلها أبناءَها!! لو يذكر الأطفال شجراتهم عندما يكبروا لصارت الرصاصاتِ قُبلاً.
حالّو يا حالّو
يلبس الرحمة والتوحد ويأتي ليخلعها على أبواب مدينتنا كمن يخلع معطفه المبلل عند وصوله إلى فندق دافئ، فدفء الدم النازف والجروح المتكدرة والعيون المقلوعة أعمق من فوانيس رمضان وزيناته!!.
اكسروا الخيمة، واكسروا عظام من في الخيمة، واكتموا أفواه من يريد الغناء فهذا عصر تغيير وجهات بنادقنا من الشرق إلى الغرب وإصلاح أبوابنا المفتوحة للياسمين ونجعلها مفتوحة للدعاء فوق مدافن الياسمين!!.
فوانيس رمضان خافتة خجلة تريد أن تغني ولكن كاتماً ما برائحة الرماد جعل الأغاني تعود أدراجها، وتترك الفوانيس برائحة كاز جدتي تربي الأمل لضيوف المساء.
حبيبي وخط السحاب
أصبح طعم الحب في مدينتي سادة كلون الرماد في شوارع مدينتنا، نلتقي وحبيبي لا وقت لنا لنشبك أيدينا ولا وقت للمشي والغناء ولا صدر يتسع للبكاء، حتى أننا بدأنا نجزم أننا فقدنا القدرة على الحب، في مدينة لا يحترف أهلها إلا الموت، نجلس لنتبادل القصص وبدلاً من قصصنا نتبادل قصصهم، هل هم يسيطرون علينا، هل نحن أضعف منهم، من هم ومن نحن؟.
بدلاً من تبادل الصور التي تجمعنا بأحداث ترسم ماضينا الوردي لمستقبل وردي كما كنا نحلم، جاءني حبيبي بصور …. مشاهد فيلم سينمائي
مشهد(1)
الأحد الأسود هذا ما أطلقته الصحف المحلية على ذلك الأحد الذي فرغت شوارع غزة يومها من كل شيء إلا الرصاص، المعتصمون في الخيمة يعتصمون للمطالبة في حقوقهم، وإذ بوابل من العصي على أبدانهم حتى تعلمهم كيف يمكن أن يكون الرد الحقيقي لمن يطالب بحقوقه في هذه المدينة، ففي وقت الأزمات لا يجب أن تطالب بحقوقك، يجب أن تصمت وترى كل ما يحدث من خراب وتصمت، وإلا فإنك تخلو من الكرامة وتصبح متهماً بالتآمر على الثوابت الوطنية!!.
عندما شاهدت التلفاز تذكرت أن ضرب العصي ساعدتنا في الانتفاضة الأولى بفضح سياسة تكسير العظام التي يتبعها الاحتلال ضد أبناء شعبنا، واليوم نستطيع أن نقول أن سياسة تكسيرالعظام واللسان وكل شيء لكل من اختلف مع (هم).
مشهد (2)
رصاص كثيف في شوارع المنطقة الشمالية في القطاع، وابل رصاصات لا تجعل حبيبي يعرف النوم يستيقظ بعيني منتفختين وبهالات سوداء تحتها، يشرب قهوته السادة مثل صباحه، دون أي اكتراث لأخبار الصحف المحلية، التي تحمل نفس اليوم ونفس الصور، يمسك ورقة ويكتب:
إليك حبيبتي أرسم عبيراً أسرقه من ورد مخنوق تحت أقدام الجحيم، هؤلاء يخطفون من هؤلاء، والآخرون يردون بخطف آخرين، كلهم يريدون إعادة المسيح في أرضه، لننبش الأموات من قبورهم ونسرق سكينتهم، صورٌ لصدور عارية رسمت الخناجر عليهاً حقداً أسوداً، وعيونٌ مفرغةٌ من لؤلؤها، وقلوب منزوعةٌ من ضلوعها، ونكتة نسمعها عن جماعة لم تصل إلى من تطارده فجاءت بجرافات لتجرف بيته بما يحمله، منهم من يريد أن يدخل الجنة ويحلم بالحور العين بقتل الكفرة الذين يغضبون الله، وكلما بشع فيهم كلما زاد أجره عند ربه، ومنهم من يريد أن يربح لعبة سياسية ولا يهمه قدر مخاسر الوطن مقابل مصالحه.
أنتبهوا نحن لا نتكلم عن تعذيب الاحتلال للأسرى في السجون الإسرائيلية، ولا نتكلم عن جرافات استيطانية، ولا نتكلم عن رصاص يقتل عدونا نحن نتكلم عن هنا، في داخلنا عن أحشاءٍ نصرُّ على تمزيقه.
فلكل زائرينا الكرام " انتبهوا أنتم في غزة".
مشهد (3)
العيد وبأي حال عدت يا عيد، اجتياحُ إسرائيلي على مدينة بيت حانون القوات الخاصة قتلت ما قتلت من المواطنين، بعد أن سرّبت في المدينة عن شجار وهمي بين عائلتين، السلاح يصول ويجول والجميع يطلق النار لا أحد يعلم من أين الرصاص يأتي؟ هو رصاص إسرائيلي والجميع مصمم أنه خلاف عائلي، لم يقتنع أحد إلا عند دخول الدبابات حتى تخرج أفراد القوات الخاصة، ولم يُخدش حتى جنزير واحد لدباباتهم، لأننا لم نكن قد استوعبنا بعد أنهم أعداؤنا وأنهم إسرائيليون!!.
مشهد(4)
في مستشفى كمال عدوان بعد الاجتياح، أم لشهيدين، وعمة آخر تبكي وتندب حظها وتريد ثأر أبنائها من العائلة الأخرى، الجميع يقنعها أنهم شهداء وأن الإسرائيليون من قتلوا أبناءها، وهي تصمم أنهم قتلى وأنهم ضحايا الشجار العائلي في بيت حانون!!. (لا تعليق)
مشهد(5)
من كثرة اسوداد الطرقات بعد العيد تهت عن شارع عملي، ربما لأنني أسرح كثيراً في الجو الرمادي الذي يخيم علينا، أو لأنني أتذكر ما يقوله لي حبيبي عن لوحة موت يرسمها أهل المدينة بغشوة عيونهم، يحرثون الحياة في قلبنا ويزرعون مرارة حياة ميتة، إليكم قصة صداقة دامت ل 8 سنوات وماتت على أعتاب الجنة!!.
لا تحكم التوجهات والاختلافات السياسية أو الأديان مشاعرنا الإنسانية، ولكن اليوم أصبحت مشاعرنا آخر ما ينمو بنا أحاسيسنا للحب تشوهت ولا أحد يبحث عن ترياق النقاء، اليوم شاب في مقتبل العمر يقتل أخ صديقه المقرب، والذي تربطه به علاقة طويلة، طويلة بزهر سنينها وبياض عمقها المتمثل بذكريات من الضحك والبكاء والحزن والفرح حاكوا أيامهم كنزة صوفية تحميهم من غدر الكراهية والاختلافات، واليوم نفك الخيوط من النهاية ونبدأ برميها تحت أنياب قطة سوداء شقيه، تركض وراءها لتفكها كلها!!.
ما المبرر؟ "هم عمموا عليهم أن دمه مسفوك وأنه للجحيم!!"، وعمموا أيضاً أن كل من يعترض على أسلوبهم حتى ولو بالكلام هو للجحيم؟!!.
مشهد(6)
اليوم ننجح بتنفيذ سياسة عجز الاحتلال طويلاً أن ينفذها علينا، شباب تائهون وخائفون من مستقبل أسود يجهلونه، الجميع يفكر بالهجرة ولأول مرة ينفذون ما يفكرون به، من هاجرهاجر، ومن بقي يبيع كل ما يملك ليشتري قطعة سلاح يحمي بها نفسه وعائلته، حتى المثقفون والذين كانوا يصممون على البقاء أصبحوا يتساءلون هل هذا هو الوطن الذي ندافع عنه؟، وطن يرمي بشبابه وخضرته وأهله بالنار.
حتى أنا لم أعد قادرة على التمييز "هل بقيت كما أنا؟" أشعر أن مساحة البياض تتقلص كثيراً، هل ما زلت أتقبل الآخر؟ أكذب إن قلت أستطيع استيعاب هذه الكمية من العشوائية والفوضى في المشاعر.
هل مازلت لدي القدرة على الحب؟ هل ما زالت لدي القدرة على انتظار النهاية؟ هل ستأتينا النهاية؟ ومن أين ستأتينا؟.
أغمض عيني وأضم وسادتي الزرقاء علّي أحلم ببياض آت.